### **سينما الذاكرة والجرح: قراءة نقدية في فيلم "196 متر" الجزائري**
في المشهد السينمائي العربي المعاصر، تبرز
السينما الجزائرية بصوت متفرّد، صوتٌ مشبع بالواقعية القاسية، ومحمّل بإرث تاريخي
معقّد، وقادر على النفاذ إلى أعماق النفس البشرية بصدق وجرأة. وفي هذا السياق،
يأتي الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج شكيب طالب بن دياب، "196 متر"،
كشهادة فنية ناضجة وعمل سينمائي يرسّخ هذه الهوية، حيث يتجاوز حدود القصة
البوليسية التقليدية ليغوص في استكشاف تشابكات الذاكرة الفردية والجماعية، ويفتح
جروحًا لم تندمل بالكامل في وجدان مجتمع بأكمله.
![]() |
### **سينما الذاكرة والجرح: قراءة نقدية في فيلم "196 متر" الجزائري** |
- الفيلم، الذي حظي بشرف تمثيل الجزائر في سباق الأوسكار لأفضل فيلم دولي، يضعنا منذ مشاهده
- الأولى في قلب عاصفة هادئة. تبدأ الحكاية بحدث صادم: اختطاف فتاة صغيرة في قلب الجزائر
- العاصمة. هذا الفعل الإجرامي لا يطلق شرارة تحقيق بوليسي فحسب، بل يعمل كمحفّز كيميائي يُفعّل
- صدمات نفسية كامنة لدى شخصيات العمل الرئيسية، ويُلقي بظلال من الشك والريبة على نسيج
- المدينة
الاجتماعي الهش.
**بنية سردية تتجاوز الجريمة**
على السطح، يتبع الفيلم بنية الدراما البوليسية،
حيث تتحد الطبيبة النفسية دينا عصام (مريم مجكان) مع مفتش الشرطة سامي (هشام مصباح)
في مهمة مشتركة للكشف عن ملابسات اختفاء الفتاة. لكن المخرج شكيب طالب بن دياب،
الذي شارك في كتابة السيناريو، يختار بذكاء ألا يجعل من "من هو الفاعل؟"
السؤال المركزي الوحيد. بدلاً من ذلك، يتحول التحقيق إلى رحلة استبطانية عميقة،
حيث يصبح البحث عن الفتاة المخطوفة بحثًا موازيًا عن حقائق ضائعة في ماضي الشخصيات
المظلم وماضي المدينة المضطرب.
- الثنائية بين دينا وسامي تمثل جوهر المقاربة الفنية للفيلم. سامي، رجل القانون، يمثل المنطق
- والإجراءات والبحث عن الأدلة المادية. أما دينا، الطبيبة النفسية، فتمثل الغوص في اللاوعي، وتحليل
- الدوافع، وفهم الصدمات التي تشكّل السلوك الإنساني. من خلال تعاونهما، ينسج الفيلم مقاربة مزدوجة
- للحقيقة
حقيقة لا تكتمل بالأدلة الجنائية وحدها، بل تحتاج إلى فهم الخرائط النفسية المعقدة للشخصيات المتورطة. تصبح الجريمة بذلك مجرد قشرة خارجية لدراما إنسانية أعمق تدور حول الشعور بالذنب، والفقد، والندم، وآليات الدفاع النفسي التي يبنيها الأفراد لحماية أنفسهم من ماضيهم.
**جماليات المكان واللغة البصرية المكثفة**
أحد أبرز مكامن القوة في "196 متر" هو
لغته البصرية المدروسة بعناية. يتجنب المخرج استعراض معالم المدينة بشكل بانورامي
واسع، وهو قرار فني مقصود. بدلاً من ذلك، يحصر كاميراه في فضاءات ضيقة ومغلقة: شقق
سكنية، مكاتب تحقيق، أزقة محدودة، وأسطح بنايات تطل على مدينة تبدو بعيدة ومنفصلة.
هذا التضييق في الكادر يخلق شعورًا بالاختناق والتوتر، ويعكس الحالة النفسية
للشخصيات المحاصرة داخل ذكرياتها وقلقها. تصبح المدينة ليست مجرد خلفية جغرافية،
بل فضاءً نفسيًا، متاهة من الأسرار والصدمات المكبوتة.
- يظهر هذا الأسلوب تأثرًا واضحًا بالسينما الأوروبية، وتحديدًا أفلام الإثارة النفسية التي تعتمد على
- الأجواء أكثر من الحركة. الإيقاع الثابت والهادئ للفيلم، والذي قد يبدو بطيئًا للوهلة الأولى، هو في
- الواقع بناء متأنٍ للتوتر الداخلي. لا توجد مشاهد مطاردات هوليوودية مبهرجة أو مبالغات درامية.
- حتى مشاهد قسم الشرطة تتسم بواقعية بسيطة
بعيدًا عن الكليشيهات المعتادة.
كل حركة كاميرا، وكل لقطة، تخدم الغوص أعمق في عوالم الشخصيات. مشهد المفتش سامي
وهو يقف وحيدًا على سطح بناية، متأملًا المدينة من بعيد، هو مشهد رمزي بامتياز؛ إنه
يعبر عن المسافة بينه وبين الحقيقة، وعن شعوره بالعزلة في مواجهة لغز يتجاوز مجرد
جريمة.
**صدى التاريخ والجرح الجماعي**
على الرغم من أن الفيلم يركّز على الدراما
النفسية، فإنه لا ينفصل عن سياقه الاجتماعي والسياسي. تظهر في الخلفية، بشكل عابر
ومتقطع، مشاهد لاحتجاجات وتظاهرات شعبية ضد الحكومة لأسباب حياتية. لا يجعل المخرج
من هذه الأحداث ركيزة أساسية، لكن وجودها يضيف طبقة مهمة من المعنى. إنها تلميح
إلى أن التوتر الذي تعيشه الشخصيات ليس فرديًا بالكامل، بل هو جزء من قلق جماعي
يسود المجتمع.
- يمكن قراءة الفيلم كاستعارة للجزائر المعاصرة التي لا تزال تتعامل مع إرث "العشرية السوداء".
- اختطاف الطفلة، رمز البراءة المفقودة، يوقظ "العقَد التي كانت نائمة"، وهي ليست فقط عقدًا
- شخصية، بل هي صدمات جماعية لم يتم الشفاء منها بالكامل. الأسرار التي يكشفها التحقيق
- والماضي المظلم الذي يطارد الشخصيات
يتردد صداها مع ذاكرة أمة بأكملها تحمل
ندوبًا عميقة. بهذا المعنى، يصبح "196 متر" فيلمًا عن "المخيال
الجمعي" الجزائري، وعن كيف يمكن لحدث في الحاضر أن يفتح أبوابًا مؤلمة على
الماضي، مؤكدًا أن ما نعتقد أنه دُفن لا يزال حيًا تحت السطح.
**طموح عالمي بهوية محلية**
صرح المخرج شكيب طالب بن دياب، الذي يعيش بين
الجزائر وباريس، بأنه أراد صنع "فيلم عالمي الجودة". هذا الطموح يتجلى
بوضوح في الاحترافية العالية للعمل على جميع المستويات: من الأداء التمثيلي القوي
والمقنع (خاصة من هشام مصباح ومريم مجكان)، إلى المونتاج الدقيق والموسيقى
التصويرية التي تعزز الأجواء دون أن تكون متطفلة، وصولًا إلى التصوير السينمائي
الذي يبرع في خلق لغة بصرية متماسكة.
- الفيلم ينجح في تحقيق هذه العالمية ليس بتقليد السينما الغربية، بل بتوظيف أدواتها الفنية لسرد قصة
- شديدة الخصوصية والمحلية. إنه يستخدم القالب العالمي (الإثارة النفسية) ليحمل قصة وقضية
- جزائرية أصيلة. هذا المزيج هو ما منحه القدرة على التواصل مع الجماهير والنقاد في مهرجانات
- دولية، مثل فوزه بجائزة أفضل فيلم روائي في مهرجان فليكرز رود آيلاند السينمائي الدولي، ويبرر
- ترشيحه لتمثيل بلاده في الأوسكار.
**خاتمة**
فيلم "196 متر" هو أكثر من مجرد فيلم جريمة ناجح؛ إنه عمل سينمائي عميق ومعقد، يقدم تشريحًا دقيقًا للنفس البشرية في مواجهة الصدمة. إنه تأمل في طبيعة الذاكرة، وفي كيفية تشكيل الماضي لحاضرنا بطرق لا ندركها دائمًا. بن دياب، في تجربته الروائية الطويلة الأولى، يثبت أنه مخرج يمتلك رؤية واضحة وقدرة على تحويل قصة محلية إلى حكاية إنسانية عالمية
مؤكدًا أن
السينما، في أفضل حالاتها، هي تلك التي تجرؤ على النظر في العتمة، ليس فقط للعثور
على الوحوش، بل لفهم الجروح التي صنعتها.